النهار ده يوم 15. يوم 25 يناير هو عيد الشرطة يوم أجازة رسمية. لو نزلنا 100 ألف واحد في القاهرة محدش هيقف قصادنا. يا ترى نقدر؟". تدوينة لا تتعدى الـ25 كلمة، نشرتها صفحة كلنا خالد سعيد في 15 يناير 2011، وهي غير مدركة أن أياماً قليلة كانت تفصلها عن قيام أكبر حدث ستشهده مصر في العصر الحديث، ثورة 25 يناير، التي ستلقي بظلالها على حياة الملايين وتغير حياتهم ومصائرهم، حاملة عبر أمواجها في سنواتها الست، أحلامهم الثائرة، التي رأوها تبدلت وشاخت وذبلت قبل الأوان.
اليوم، ما هي مصائر شباب الحركات الثورية الذين ثاروا في 25 يناير، ولاحقتهم ألقاب مطارد وسجين وهارب وصاحب نفوذ ومستفيد.
"يا سجين يا أخانا كيف العتمة في الزنزانة"، هتاف تقليدي يردده المصريون مع كل حراك سياسي يدفع السلطة إلى تنظيم اعتقالات، والزجّ بمعارضين في السجون. يتغير فيه فقط اسم السجين. فمن هتاف 6 أبريل لأحمد ماهر، إلى هتاف الاشتراكيين الثوريين للقيادي في الحركة هيثم محمدين، إلى البحث عن دومة وزيزو عبده وغيرهما من الثوريين.
من مرحلة حكم الرئيس حسني مبارك، إلى المجلس العسكري، إلى الإخوان، وأخيراً إلى عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي، كثيرون لم يمهلهم القدر أن يظلوا خارج أسوار السجن، سوى فترات صغيرة جداً شهدوا خلالها حكاماً يتغيرون، ودساتير تكتب، ومجالس نيابية تتبدل، ما جعلهم يفقدون أحلامهم الكبرى.
"لم يعد لدي ما أقوله، لا آمال أو أحلام أو مخاوف أو تحذيرات. لا شيء بالفعل. أحاول أن أتذكر كيف كانت تبدو الحياة مع غد زاخر بالأمل، حين كانت كلماتي تحدث تأثيراً في شكل المستقبل الآتي"، كلمات وصف بها علاء
عبد الفتاح، ابن الأسرة اليسارية، حاله في آخر مقال كتبه، عن أحلامه، لصحيفة الغارديان منذ عام.
علاء عبد الفتاح علاء عبد الفتاح
علاء صاحب أشهر المدونات المصرية (مدونة منال وعلاء)، الذي لم ير نجله إلا بعد شهور من ولادته، توقف حتى عن التدوين من داخل حبسه، سوى رسائل قليلة تنشرها أسرته على فترات متباعدة.
ومن علاء إلى أحمد دومة، الذي ارتبط اسمه بهاشتاغ #الحرية_لأحمد_دومة، صار حلم الخلاص من عتمة الزنازين يطارد الشاب الثوري، وأسرته وأصدقاءه يوماً بعد آخر، خصوصاً بعد خروج أحمد ماهر مؤسس 6 أبريل مؤخراً من السجن.
هما رفيقا الميدان منذ ثورة يناير، وتشاركا في القضية نفسها التي عرفت إعلامياً بقضية خرق قانون التظاهر في ديسمبر 2013، والتي حكم فيها بسجنهما ثلاث سنوات على أثر اتهامهما بالاعتداء على القوات المكلفة تأمين محكمة عابدين، واستعراض القوة، وإتلاف منشآت عامة وخاصة.
أحمد دومة
دومة، الذي يقضي عقوبة بالحبس 31 عاماً في عدة قضايا، منها قضية أحداث مجلس الوزراء، واتهامه بحرق المجمع العلمي، اعتاد التظاهر منفرداً في عهد مبارك، حين لم يكن هناك متظاهرون خشية مواجهة الاعتقال.
قالت زوجته نورهان حفظي لرصيف22: "تبدلت حال أحلامهما بعد أن كانا يحلمان بواقع مختلف للبلد بأكمله. صار الحلم الآن السلامة والأمن الشخصي وأن تستجيب الداخلية لطلب علاج دومة من آلامه الصحية، فهو يعاني من آلام تأكل غضروف الركبة، ويحتاج لأشعة رنين على الفقرات القطنية حتى لا تسوء حالته".
البداية كانت: شاب ثلاثيني أنشأ صفحة على فيسبوك ليحيي بها ذكرى وفاة شاب آخر سقط جراء التعذيب أسماها "كلنا خالد سعيد". لم يكن مؤسس الصفحة المبرمج وائل غنيم، يعلم أن صفحته تلك ستجذب مئات الآلاف من المتابعين وستكون القشة التي تقصم ظهر البعير، والشرارة التي انتقلت كالنار في الهشيم لتعلن أن رياح التغيير وصلت مصر.
وائل غنيم وائل غنيم
بعد 6 أعوام، أصبح غنيم خارج مصر، بعد أن تبخرت أحلامه، ولم يجد لنفسه مكاناً في بلده، واكتفى بالظهور المقنع من وراء الفضاء الإلكتروني بتدوينات بين حين وآخر.
حال غنيم الذي غادر البلاد بإرادته الحرة، لم يكن هو نفسه حال البعض الآخر من الثائرين. فكريم طه، أحد قياديي حركة شباب 6 أبريل، والهارب خارج البلاد من حكم صادر ضده في القضية التي عرفت إعلامياً بقضية العزاء مثال لمن فروا خشية المصير المحتوم داخل جدران سجن لا يرحم.
كريم طه كريم طه
كريم الذي يقيم الآن في إحدى البلدان الأوروبية، قال لرصيف22 إن الأحلام خاصمته لفترات كثيرة، فلم تعد لديه أحلام يقظة ولا أحلام نوم. وأضاف: "خلال السنوات الست التي تلت الثورة واجهت الحبس مرتين، الأولى في عهد الإخوان والثانية في قضية معتقلي العزاء 2014. لا أعلم حتى الآن ما هي تهمتي. كل ما فعلناه هو إحياء ذكرى زميلنا في حركة 6 أبريل أحمد المصري الذي استشهد في عهد الإخوان. فكانت الغربة خارج البلاد من نصيبي، ولم تكن يوماً حلماً من أحلامي".
وكان أحمد المصري لقي مصرعه متأثراً بإصابته أثناء توجهه إلى عمله في محيط ميدان مصطفى محمود، في 14 أغسطس 2013، إثر الاشتباكات التي اندلعت بين قوات الأمن وأنصار جماعة الإخوان المسلمين عقب فض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة.
وفي الأول من سبتمبر 2014، أحيا عدد من أعضاء حركة شباب 6 إبريل الذكرى الأولى لاستشهاد المصري، بجوار منزله في منطقة بولاق الدكرور، وألقت قوات الأمن القبض على 10 منهم، كان كرم أحدهم ووجهت النيابة إليهم تهمة التظاهر والتجمهر.
شاركغردأحد وجوه ثورة يناير: "المشكلات في عهد مبارك كانت كبيرة لكن الآن تفاقمت، ما يجعلنا نتمنى أن نعود للوراء"
شاركغردرصيف22 يذهب إلى لقاء أبرز وجوه ثورة 25 يناير... أين هم اليوم وكيف يرون المشهد الحالي؟
وأضاف: "كل ما تمنيته صار سراباً، فأحلامي في 2011، لم يكن لها سقف. الحياة كانت وردية، كنت أظن أننا نبني يوتوبيا، لكن الآن الواقع أسود حالك وكذلك المستقبل. لن يوقظني من هذا سوى حدوث أمر جلل، مثل ثورة يناير مجدداً، نعود فيه لأحلامنا وأعود فيه لوطني مجدداً، ولكن هذا مجرد حلم صعب المنال".
أن تتنفس الصعداء لدى صدور خبر الإفراج عنك، ويتكدر صفوك، لكونك الآن رهن الإجراءات الاحترازية، كان نصيب عدد آخر من الشباب الثوري، آخرهم أحمد ماهر، المهندس الشاب مؤسس حركة شباب 6 أبريل آخر شباب الثورة المودّعين للزنازين في مطلع يناير الجاري.
لم يكن ماهر يدرك أن سنوات الخلاص التي انتظرها بعد سقوط مبارك، لن تستمر طويلاً لتأتي الرياح بما لا تشتهيه السفن، ويصبح رمزاً ثورياً فقط داخل السجون، خصوصاً بعد صدور حكم قضائي بحظر نشاط حركة 6 أبريل بمصر.
أحمد ماهر أحمد ماهر
أثار ماهر ضجة كبرى بمقال نشره عام 2014 تحت عنوان "للأسف كنت أعرف"، اتهم بعده بخيانة وبيع الثورة ليعود مجدداً إلى الأضواء، بخبر الإفراج عنه، مفضلاً الصمت، وعدم الحديث مع وسائل الإعلام.
وتحدث ماهر في المقال المذكور عن إشارات-رسائل، كان واضحاً منها أن السلطة تريد اعتقاله. وانتقد فيه بعض مناخات المعارضين، قائلاً: "كثير من النخب الليبرالية والثورية والشبابية، وقعوا بالفعل في الفخ، فالمعتقل الذي ليس معنا، أو الذي لا نحبه، أو اللي مش مننا كتيار فلا حرية له... وحلال فيه القمع والتلفيق... أحسن... يستاهل".
هتيف الثورة ومغردها صاحب الحنجرة الجهورية، والهتافات الرنانة والمتطورة عبر العهود الثلاثة، التي تلت ثورة يناير، زيزو عبده، ذاق مرارة وعتمة الزنازين ثلاث مرات. قال إن أحلامه عام 2017 لم تعد موجودة، فهناك فرق كبير بين ما كان يحلم به في وقت الثورة وما أصبح يشعر به الآن.
زيزو عبده زيزو عبده
وأضاف: "فقط أشعر أننا كبرنا وأصبحنا نرى الواقع قاتماً، صرت أذهب إلى قسم الشرطة بشكل دوري لأسجل اسمي يومياً في جدول حضور وانصراف تحت اسم التدابير الاحترازية، فكيف لي أن أحلم، وأنا الذي كان يبحث عن حلم التغيير والعدالة الاجتماعية ومحاكاة تجارب الدول الناجحة، أملاً في مستقبل أفضل؟ أصبح الأمل فكرة غريبة علينا. أصبحنا نرى العالم الحقيقي بلون آخر بالتأكيد، ليس اللون الوردي الذي اعتدنا أن نراه به في 2011".
زيزو الآن يتمنى حدوث "معجزة" تعيد إليه أحلامه.
أن تقرر ترك ما حييت سنوات من أجله بكامل إرادتك، وتتخلى عن أحلامك التي انهارت أمام طوفان العقبات وتترك لعقلك الفرصة لقراءة المشهد بعمق أكبر، ه