الدزلية للاعلام
الجمعة 2019/01/18
على الرغم من كل الوسائل، التي سخرت لاحتفالية يناير الرسمية، وغير الرسمية، ماذا بقي من يناير، الذي لازم المجتمعات الزراعية وتآلف معها من خلال الحركات والطقوس والعلامات، التي تعمل كلها للوصول إلى محاصيل وغلال وافرة وأن يكون العام صابة. كان الارتباط بالأرض والتفاعل معها كعرض وكامتداد جسدي هو الذي يحقق أهداف يناير ويجعل الاحتفاء به بنكهة ومذاق لا يعرفهما سوى من خبر تغيير الأثافي، ومن شاهد انغراس النساء في خطوط الحرث بكامل زينتهن لتخصيب رحم الأرض، يجب الاهتمام بمثل هذه المظاهر وغيرها من الطقوس لتأسيس وترسيخ قيم الاحتفال.أين عادت تقنيات الزراعة والتعامل مع الأرض بعد أفول طرق ومهارات الأمهات والآباء، حتى لا نقل الأجداد في ظل تغير النظرة وتصور العمل الزراعي، وفي ظل البيوت البلاستيكية، التي أتت على الخبرات التقليدية وعلى تذوقنا لمختلف المحاصيل، التي أصبحت موجودة في كل زمان والمعروضة بلا روح و لا فائدة في المتاجر والأسواق والموائد؟
ماذا بقي من يناير الذي رسمته القوانين والدساتير، والشغف باعتبارها من رموز الهوية الوطنية، وتكريسا لها؟
جاءت احتفالات يناير بصبغة وطنية وهذا من الأشياء الجميلة. وأريد لها أن تكون متنوعة وجامعة وموحدة للمّ شمل الأسر والجماعات والمناطق على أطباق الهوية، التي انتزعت نزعا من خلال مطالبات حثيثة. لكن لم تفلح في إحداث اجماع وطني يمكن أن يبعدنا عن تشنجات الهوية، كما اعتدنا دائما. فبالرغم من الخطابات الرسمية التي أطرت الاحتفال، والتي ترى فيه مصالحة مع الذات التعبانة المجهدة تاريخيا، والتي ترغب في يوم راحة غير مرتبط باحتفالية دينية ولا دنيوية، وذلك من خلال اكتشاف للتاريخ ورمزية يناير والبدء من المدرسة كأحد الفضاءات، التي ركز عليها المنظمون جهودهم لتلقين الناشئة طقوس مسارة واكتشاف لمظاهر ثقافية حول رأس السنة. لنسميها الجزائرية، خارج خشبيات لغوية متآكلة». لكن لا أحد كلف نفسه عناء إفهام التلاميذ مقاصد وسياقات هذه الاحتفالية، وكل ما بقي راسخا في أذهان التلاميذ أكل ورقص وخرجوا بأنه رأس سنة أمازيغية تنعاد علينا بالخير.
منذ رياض الأطفال إلى الجامعة وشيشناق يكبر ويحارب ويستولي على السلطة ويصبح فرعونا، وندخل من خلاله إلى أقدم تقويم، تقويم مغلوط تاريخيا. لكنه إيديولوجيا ليستقيم الهدف ويتجذر. بعيدا عن البرامج الدراسية. رجاء. حكّة جلدية تصيب بعضنا إن قلنا سنة أمازيغية وحكة أخرى تصيب البعض الآخر إن قلنا عام العرب. نتفق على الجزائر برايتها التي ضحى في سبيلها المجتمع، دون تحيز للجغرافيا ولا لدهاليز تاريخ يستعمل استعمالا لتبرير الغايات.
لم يمر ترسيم يناير والاحتفال به دون إفراز مشاهد قلقة متوترة، ورسومات ديلام، التي وصفت بالعنصرية والتي جاءت ضمنيا وعلنا للتفرقة بين حضارات وثقافات تلاقحت منذ قرون. كاريكاتور محرض للكراهية، لكن دون أن يثير هذا قلق أي مسؤول. كما انبرى حشد من المثقفين والاعلاميين، سواء للدفاع عن أمازيغية يناير أو للقول إنها احتفالات كانت تلقائية للجميع دون مزايدة لغوية و»إثنية. يجد المثقف مثل هذه الاحتفالات، التي تكتسي صبغة هوياتية منبرا ليجدّد ولاءاته للقوى التي تستولي على مشهد الحياة السياسية والثقافية والاقتصادية، باعتباره مثقفا «عضويا» ينزل من برج أفكاره ليتفاعل مع الأحداث. لكن الظاهر من الأمور يخدع ويغوي.
لا يحق لأحد أن يستولي على تراث يناير، وما تبقى منه، من موائد عشاء ورقص فلكلوري وتقاليد لباسية متكررة، تطمح لتبرز التنوع المذهل للبلد القارة، لكن دون دراسة وخبرة بالموضوع. اللباس القبايلي والشاوي والحولي التارقي. من يسمع ورقة صباحية حول اللباس المناسباتي يصاب بالذهول والغثيان.
في قرية «ثيزّا» وتفاضل الثقافات
في كل مرة تطل علينا النساء والجمعيات بما لذ وطاب من الأطباق وفي كل مرة نسمع عبارة: الاختلاف من منطقة لأخرى، وفي الواقع أنّه لا يتم التركيز على هذه الاختلافات، فنفسه «الكسكي» و»البركوكس» و«الغرايف» أو «البغرير» و«المسمن» و«الخفاف» و«الرشتة». وعدم الوقوف على الاختلافات ليس متعمدا، بل لقلة المعلومات وارتجالية البرامج الاحتفالية ومن النادر جدا سماع أشياء جديدة في مثل هذه المناسبات، لأنّها أطباق تتكرر في احتفاليات مغايرة. وفي الواقع أنّ البحث في المناطق النائية والمناطق غير المركز عليها اعلاميا توحي بالكثير من المعلومات والطقوس حول أي احتفالية. لكن بساطة المناطق وعدم دخولها في نمطية القول والمظهر تجعلها بعيدة عن الاعلام والمؤسسات.
في قرية ثيزّا في منطقة عمال شرق مدينة الجزائر في ولاية بومرداس، والتي اعتبرت أجمل قرية في الولاية، بالرغم من أنها من القرى النائية، تم استقبال وفود ينايرية من خارج المنطقة ومن خارج الوطن للمشاركة في الاحتفالات بها، فذهلت للباس الفتيات بها، لباس بلون أصفر كالعقارب ومكثف التطريزات والزينة، لكنه ليس بلباس نساء المنطقة وما جاورها، بل جبة منطقة اواضين في تيزي وزو، المنتشرة عالميا، والتي استطاعت أن تكون رمزا من رموز اللباس التقليدي الوطني، مع أنّ فكرة اللباس التقليدي، مقولة لا تصمد واقعيا، لأنّ ما يعتبر تقليديا اليوم مر بتحويرات مكثفة عبر مساره الطويل، حتى وصل إلى ما هو عليه. اللهم لا اعتراض، أن نرتدي جبة ايواضين. لكن الهدف هو ابراز التقاليد المتنوعة، وليس فرض تقاليد لباسية معينة بوعي أو لا وعي. على هذا التفاضل اللباسي يبرز تفاضل لغوي فلا اللكنة ولا الصواتة صواتة أمازيغية ثيزا وقرى بومرداس الجبلية، بل بلكنة أمازيغية القبائل الكبرى. وهكذا نكون أمام مركز جاذب للأطراف ومهيمن ومسيطر على الوضع. في سبيل الهوية الواحدة كل شيء يهون. فهناك تقليل من قيمة الثقافات الفرعية مادية كانت أو غير مادية، وجرها جرا نحو مقولات التراث الفضفاضة، لتتبخر عبقريتها وخصوصيتها وتذوب في هوة المركز السحيقة. هكذا بدأت احتفالات يناير الرسمية من خلال المهرجانات المفتوحة على الشوارع والمداشر والمدن، كثقافة المهدئات، ينتهي مفعولها بانتهاء فترة المهرجان. فتشرئبّ الأعناق لمهرجان آخر جديد. وأين الفرح في كل هذا؟
أحزان بالجملة على مواقع التواصل
إضافة إلى النعي اليومي للموتى بالعشرات يوميا، موت ربي، ناهيك على الموت جراء الحروب والجرائم وعدوانية البشر وافتراسيتهم، تظهر حوادث أليمة يتفاعل معها رواد وسائل التواصل الاجتماعي. فبعد حادثة محجوب العياشي، التي هزت البلاد والعباد، ضج الفيسبوك بخبر وفاة المهندسة إيمان خيالي في موقع العمل بعد سقوط الطوب عليها من الطابق الخامس، مما سبب لها نزيفا ولم يتمكن الأطباء من ايقافه وانقاذها، هكذا غادرت الشابة ذات الستة والعشرين ربيعا دون توديع بسبب ظروف العمل غير المطابقة للمعايير للشركة التركية المكلفة بإنجاز سكنات عدل. تضامن كبير مع عائلتها وحملوا المسؤولين ما يتعرض له الشباب من مشاكل تدفعهم للانتحار بأي شكل من الأشكال، وهذا التعاطف جعل وزير السكن ينتقل لبيت المهندسة الضحيّة لتعزية أهلها، متوعدا بالكشف عن المتسبب في حالة وفاتها. تعددت الأسباب والموت واحد. ماذا عسانا نقول؟
كذلك زوجة الصحافي ملاح وابنه يتصدران الأحداث، التي توجع وتؤلم، أمام وقوفهما عاجزين عن الحد من تدهور حالته الصحية ورضرابه عن الطعام، احتجاجا على طريقة محاكمته. نرجو الرأفة بهم جميعا.
منذ ساعات تناقل البعض خبر إقدام مجموعة من شباب مدينة آفلو في الأغواط على تقطيع أجسادهم بالزجاج، وهم رافعون العلم الوطني، شباب أصيبوا بخيبة أمل وإحباط بعد فقدان الأمل في الظفر بوظيفة بعدما غلقت في وجوههم كل الأبواب بحجة أنهم تجاوزوا سن الخامسة والثلاثين ولم يعد لديهم الحق في التوظيف. حالات تعنيف الذات وجلدها وإهانة الجسد بالتعذيب والحرق في ظل تدهور ظروف حياة هؤلاء الشباب تدفعهم دفعا للمهالك وللبحار. مثل هؤلاء الشباب وهم كثر ممن لا يكترثون باحتفالات ولا مهرجانات ولا سيمفونيات ولا هوية. يحتاجون لعمل ولخبز لحفظ الكرامة لتحدث المصالحة مع الجسد. ثم تأتي كل الأشياء الجميلة بإذن الله. قولوا آمين.